فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والإِدراك: اللحاق والوصول إلى البُغية فقوله: {أن تُدرك} فاعل {يَنْبَغِي} فأفاد الكلام نفي انبغاء إدراك الشمسسِ القمرَ.
والمعنى: نفي أن تصطَدم الشمس بالقمر، خلافًا لما يبدو من قرب منازلهما فإن ذلك من المسامتة لا من الاقتراب.
وصوغ هذا بصيغة الإِخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي لإِفادة تقوّي حكم النفي فذلك أبلغ في الانتفاء مما لو قيل: لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر.
وافتتاح الجملة بحرف النفي قبل ذكر الفعل المنفي ليكون النفي متقررًا في ذهن السامع أقوى مما لو قيل: الشمسُ لا ينبغي لها أن تدرك القمر، فكان في قوله: {لا الشَّمْسُ ينبغي لها أن تُدْرِكَ القَمَر} خُصوصيتان.
ولمَّا ذكر الشمس والقمر وكانت الشمس مقارنة للنهار في مخيلات البشر، وكان القمر مقارنًا لليل، وكان في نظام الليل والنهار منافع للناس اعترض بذكر نظام الشمس والقمر أثناء الاعتبار بنظام الليل والنهار.
ومعنى: {ولاَ الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أن الليل ليس بمفلتتٍ للنهار، فالسبق بمعنى التخلص والنجاة، كقول مُرة بن عَدَّاء الفقعسي:
كأنَّكَ لم تَسبَقْ من الدهر مَرَّةً ** إذا أنتَ أدركت الذي كنتَ تطلب

{أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا} في سورة العنكبوت (4)، والمعنى: أن انسلاخ النهار على الليل أمر مسخّر لا قبل لليل أن يتخلف عنه.
ولا يستقيم تفسير السبق هنا بمعناه المشهور وهو الأوَّلية بالسير لأن ذلك لا يُتصور في تداول الليل والنهار، ولا أن يكون المراد بالسبق ابتداءَ التكوين إذ لا يتعلق بذلك غرض مهم في الآية، على أن الشأن أن تكون الظلمة أسبق في التكوين.
والغرض التذكير بنعمة الليل ونعمة النهار فإن لكليهما فوائد للناس فلو تخلص أحدهما من الآخرِ فاستقرّ في الأفق لتعطلت منافع جمّة من حياة الناس والحيوان.
وفي الكلام اكتفاء، أي لأن التقدير: ولا القمرُ يدرك الشمسَ، ولا النهارُ سابق الليل.
وقوله: {وكُلٌّ في فَلَككٍ يَسْبَحُونَ} عطف على جملة {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر}.
والواو عاطفة ترجيحًا لِجانب الإِخبار بهذه الحقيقة على جانب التذييل، وإلا فحقّ التذييل الفصل.
وما أضيف إليه {كلّ} محذوف، وتنوين {كل} تنوين عوض عن المضاف إليه المحذوففِ، فالتقدير: وكلّ الكواكب.
وزيدت قرينة السياق تأكيدًا بضمير الجمع في قوله: {يَسْبَحُونَ} مع أن المذكور من قبل شيئان لا أشياء، وبهذا التعميم صارت الجملة في معنى التذييل.
والفَلَك: الدائرة المفروضة في الخلاء الجوّي لسير أحد الكواكب سيرًا مطّردًا لا يحيد عنه، فإن أهل الأرصاد الأقدمين لما رصدوا تلك المدارات وجدوها لا تتغير ووجدوا نهايتها تتصل بمبتداها فتوهموها طرائق مستديرة تسير فيها الكواكب كما تتقلب الكرة على الأرض وربما توسعوا في التوهم فظنوها طرائق صلبة ترتكز عليها الكواكب في سيرها وبعض الأمم يتوهمون الشمس في سيرها مجرورة بسلاسل وكلاليب وكان ذلك في معتقد القبط بمصر.
وسمّى العرب تلك الطرائق أفلاكًا واحدها فَلَك اشتقوا له اسمًا من اسم فَلْكَة المِغْزَل، وهي عُود في أعلاه خشبة مستديرة متبطحة مثل التفاحة الكبيرة تلفُّ المرأة عليها خيوط غزلها التي تفتلها لتديرها بكفّيها فتلتف عليها خيوط الغزل، فتوهموا الفلك جسمًا كُرويا وتوهموا الكواكب موضوعة عليه تدور بدورته ولذلك قدروا الزمان بأنه حركة الفَلَك.
وسمّوا ما بين مبدأ المُدّتين حتى ينتهي إلى حيث ابتدأ دورة الفلك.
ولكن القرآن جاراهم في الاسم اللغوي لأن ذلك مبلغ اللغة وأصلح لهم ما توهموا بقوله: {يَسْبَحُونَ} فبطل أن تكون أجرام الكواكب ملتصقة بأفلاكها ولزم من كونها سابحة أن طرائق سيرها دوائر وهمية لأن السبح هنا سبح في الهواء لا في الماء، والهواء لا تخطط فيه الخطوط ولا الأخاديد.
وجيء بضمير {يَسْبَحُونَ} ضمير جمع مع أن المتقدم ذِكره شيئان هما الشمس والقمر لأن المراد إفادة تعميم هذا الحكم للشمس والقمر وجميع الكواكب وهي حقيقة علمية سبق بها القرآن.
وجملة {كل في فلك} فيها محسن الطرد والعكس فإنها تقرأ من آخرها كما تقرأ من أولها.
{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)}.
انتقال من عدّ آيات في الأرض وفي السماء إلى عد آية في البحر تجمع بين العبرة والمنة وهي آية تسخير الفُلْك أن تسير على الماء وتسخير الماء لتطفو عليه دون أن يغرقها.
وقد ذكَّر الله الناس بآية عظيمة اشتهرت حتى كانت كالمشاهدة عندهم وهي آية إلهام نوح صنع السفينة ليحمل الناس الذين آمنوا ويحمل من كل أنواع الحيوان زوجين لينجي الأنواع من الهلاك والاضمحلال بالغرق في حادث الطوفان.
ولما كانت هذه الآية حاصلة لفائدة حمل أزواج من أنواع الحيوان جُعلت الآية نفس الحمل إدماجًا للمنة في ضمن العبرة فكأنه قيل: وآية لهم صنع الفُلك لنحمل ذرياتهم فيه فحملناهم.
وأطلق الحَمل على الإِنجاء من الغرق على وجه المجاز المرسل لعلاقة السببية والمسببية، أي أنجينا ذرياتهم من الغرق بحملهم في الفُلك حين الطوفان.
والذريات: جمع ذرية وهي نسل الإِنسان.
و{الفلك المشحون} هو المعهود بين البشر في قصة الطوفان، وهو هنا مفرد بقرينة وصفه بالمفرد وهو {المَشْحُونِ} ولم يقل: المشحونة كما قال: {وترى الفلك فيه مواخر} [فاطر: 12] وهو فلك نوح فقد اشتهر بهذا الوصف في القرآن كما في سورة الشعراء (119) {فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون} ولم يوصف غير فلك نوح بهذا الوصف.
وتعدية حَمَلْنَا إلى الذريات تعدية على المفعولية المجازية وهو مجاز عقلي فإن المجاز العقلي لا يختص بالإِسناد بل يكون المجاز في التعليق فإن المحمول أصول الذريات لا الذريات وأصولها ملابسة لها.
ولما كانت ذريات المخاطبين مما أراد الله بقاءه في الأرض حين أمر نوحًا بصنع الفلك لإِنجاء الأنواع وأمره بحمل أزواج من الناس هم الذين تولد منهم البشر بعد الطوفان نُزّل البشر كله منزلة محمولين في الفلك المشحون في زمن نوح، وذكر الذريات يقتضي أن أصولهم محمولون بطريق الكناية إيجازًا في الكلام، وأن أنفسهم محمولون كذلك كأنه قيل: إنا حملنا أُصولهم وحملناهم وحملنا ذرياتهم، إذ لولا نجاة الأصول ما جاءت الذريّات، وكانت الحكمة في حمل الأصول بقاء الذريات فكانت النعمة شاملة للكل، وهذا كالامتنان في قوله: {إنّا لمّا طغى الماءُ حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة} [الحاقة: 11، 12].
وضمير {ذُرَّيَاتَهُم} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {لَهُمْ} أي العباد المراد بهم المشركون من أهل مكة لكنهمْ لوحظوا هنا بعنوان كونهم من جملة البشر، فالمعنى: آية لهم أنا حملنا ذريات البشر في سفينة نوح وذلك حين أمر الله نوحًا بأن يحمل فيها أهله والذين آمنوا من قومه لبقاء ذريات البشر فكان ذلك حملًا لذرياتهم ما تسلسلت كما تقدم آنفًا.
هذا هو تأويل هذه الآية قال القرطبي: وهي من أشكل ما في السورة، وقال ابن عطية: قد خلط بعض الناس حتى قالوا: الذرية تطلق على الآباء وهذا لا يعرف من اللغة وتقدم قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم} في سورة الأعراف (172).
وقرأ نافع وابن عامر {ذرياتهم} بلفظ الجمع.
وقرأه الباقون بدون ألف بصيغة اسم الجمع، والمعنى واحد.
وقد فهم من دلالة قوله: {أنَّا حَمَلْنَا ذُرِيَّاتَهُمْ} صريحًا وكناية أن هذه الآية مستمرة لكل ناظر إذ يشهدون أسفارهم وأسفار أمثالهم في البحر وخاصة سكان الشطوط والسواحل مثل أهل جُدة وأهل يُنْبُع إذ يسافرون إلى بلاد اليمن وبلاد الحبشة فيفهم منه: أنا حملنا ونحمل وسنحمل أسلافهم وأنفسهم وذرياتهم.
وقد وصف طرفة السفن في معلّقته.
وجملة {وخَلَقْنَا لهُمْ مِن مِثْلِهِ ما يركَبُونَ} معترضة في خلال آية البحر اقتضتها مراعاة النظير تذكيرًا بنعمة خلق الإِبل صالحة للأسفار فحُكيت آية الإِلهام بصنع الفلك من حيث الحكمة العظيمة في الإِلهام وتسخير البحر لها وإيجادها في وقت الحاجة لحفظ النوع، فلذلك لم يؤت في جانبها بفعل الخلق المختص بالإِيجاد دون صنع الناس.
وحكيت آية اتخاذ الرواحل بفعل {خلقنا} ونظير هذه المقارنة قوله تعالى: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} [الزخرف: 12]، فَمَا صدْق {مَا يَركَبُونَ} هنا هو الرواحل خاصة لأنها التي تشبه الفلك في جعلها قادرة على قطع الرمال كما جعل الفلك صالحًا لمخْر البحار، وقد سمت العرب الرواحل سفائن البرّ و{مِن} التي في قوله: {مِن مِثلِهِ} بيانية بتقديم البيان على المبين وهو جائز على الأصح، أو مؤكدة ومجرورها أصله حال من {ما} الموصولة في قوله: {ما يركَبُون}.
والمراد المماثلة في العظمة وقوة الحمل ومداومة السير وفي الشكل.
وجملة {وإن نَشَأْ نُغْرِقهُم} عطف على جملة {أنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّاتَهُم} باعتبار دلالتها الكنائية على استمرار هذه الآية وهذه المنة تذكيرًا بأن الله تعالى الذي امتنّ عليهم إذا شاء جعل فيما هو نعمة على الناس نقمة لهم لحكمة يعلمها.
وهذا جرى على عادة القرآن في تعقيب الترغيب بالترهيب وعكسِه لئلا يبطر الناس بالنعمة ولا ييأسوا من الرحمة.
وقرينة ذلك أنه جيء في هذه الجملة بالمضارع المتمحّض في سياق الشرط لكونه مستقبلًا، وهذا كقوله تعالى: {أفأمِنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبًا ثم لا تجدوا لكم وكيلًا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفًا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا} [الإسراء: 6869].
والصريخ: الصارخ وهو المستغيث المستنجد تقول العرب: جاءهم الصريخ، أي المنكوب المستنجد لينقذوه، وهو فعيل بمعنى فاعل.
ويطلق الصريخ على المغيث فعيل بمعنى مفعول، وذلك أن المنجد إذا صرخ به المستنجد صرخ هو مجيبًا بما يطمئن له من النصر.
وقد جمع المعنيين قول سلامة بن جندل أنشده المبرد في الكامل:
إنا إذا أتانا صارخ فزع ** كان الصُراخ له قَرع الظَنابيب

والظنابيب: جمع ظُنبوب وهو مسمار يكون في جُبة السنان.
وقرع الظنابيب تفقد الأسنة استعدادًا للخروج.
والمعنى: لا يجدون من يستصرخون به وهم في لُجج البحر ولا ينقذهم أحد من الغرق.
والإنقاذ: الانتشال من الماء.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: {ولا هم يُنقَذُونَ} لإِفادة تقوّي الحكم وهو نفي إنقاذ أحدٍ إياهم.
والاستثناء في قوله: {إلاَّ رَحْمَةً} منقطع فإن الرحمة ليست من الصريخ ولا من المنقذ وإنما هي إسعاف الله تعالى إياهم بسكون البحر وتمكينهم من السبح على أعواد الفلك.
و{وَمَتاعًا} عَطف على {رَحْمَةً} أي إلاّ رحمة هي تمتيع إلى أجل معلوم فإن كل حي صائر إلى الموت فإذا نجا من موته استقبلته موتة أخرى ولكن الله أودع في فطرة الإِنسان حبّ زيادة الحياة مع علمه بأنه لا محيد له عن الموت. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)}.
أخبر تعالى بإهلاك قوم حبيب بصيحة واحدة صاح بهم جبريل، وفي ذلك توعد لقريش أن يصيبهم ما أصابهم، إذ هم المضروب لهم المثل.
وأخبر تعالى أنه لم ينزل عليهم لإهلاكهم جندًا من السماء، كالحجارة والريح وغير ذلك، وكانوا أهون عليه.
وقوله: {من بعده} يدل على ابتداء الغاية، أي لم يرسل إليهم رسولًا، ولا عاتبهم بعد قتله، بل عاجلهم بالهلاك.
والظاهر أن ما في قوله: {ومكنا منزلين} نافية، فالمعنى قريب من معنى الجملة قبلها، أي وما كان يصح في حكمنا أن ننزل في إهلاكهم جندًا من السماء، لأنه تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض، كما قال: {فكلًا أخذنا بذنبه} الآية.
وقالت فرقة: ما اسم معطوف على جند.
قال ابن عطية: أي من جند ومن الذي كنا منزلين على الأمم مثلهم.
انتهى، وهو تقدير لا يصح، لأن من في من جند زائدة.
ومذهب البصريين غير الأخفش أن لزيادتها شرطين: أحدهما: أن يكون قبلها نفي، أو نهي، أو استفهام.
والثاني: أن يكون بعدها نكرة، وإن كان كذلك، فلا يجوز أن يكون المعطوف على النكرة معرفة.
لا يجوز: ما ضربت من رجل ولا زيد، وإنه لا يجوز: ولا من زيد، وهو قدر المعطوف بالذي، وهو معرفة، فلا يعطف على النكرة المجرورة بمن الزائدة.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن تكون ما زائدة، أي وقد كنا منزلين، وقوله ليس بشيء.
وقرأ: {إن كانت إلا صيحة} بنصب الصيحة، وكان ناقصة واسمها مضمر، أي إن كانت الأخذة أو العقوبة.
وقرأ أبو جعفر، وشيبة، ومعاذ بن الحارث القارىء: {صيحة} بالرفع في الموضعين على أن كانت تامة، أي ما خدثت أو وقعت إلا صيحة، وكان الأصل أن لا يلحق التاء، لأنه إذا كان الفعل مسندًا إلى مابعد إلا من المؤنث، لم تلحق العلامة للتأنيث فيقول: ما قام إلا هند، ولا يجوز: ما قامت إلا هند، عند أصحابنا إلا في الشعر، وجوزه بعضهم في الكلام على قلة.
ومثله قراءة الحسن، ومالك بن دينار، وأبي رجاء، والجحدري، وقتادة، وأبي حيوة، وابن أبي عبلة، وأبي بحرية: {لا ترى إلا مساكتهم} بالتاء، والقراءة المشهورة بالياء، وقول ذي الرمة:
وما بقيت إلا الضلوع الجراشع

وقول الآخر:
ما برئت من ريبة وذمّ ** في حربنا إلا بنات العمّ

فأنكر أبو حاتم وكثير من النحويين هذه القراءة بسبب لحوق تاء التأنيث.
{فإذا هم خامدون} أي فاجأهم الخمود إثر الصيحة، لم يتأخر.
وكنى بالخمود عن سكوتهم بعد حياتهم، كنار خمدت بعد توقدها.
ونداء الحسرة على معنى هذا وقت حضورك وظهورك، هذا تقدير نداء، مثل هذا عند سيبويه، وهو منادى منكور على قراءة الجمهور.